دخول الفرس
كانت الإمبراطورية الرومانية قد انقسمت إلى إمبراطوريتين شرقية(و عاصمتها بيزنطة) و غربية (و عاصمتها روما)..و كانت الإمبراطورية البيزنطية قد وصلت إلى حالة بالغة من الضعف في القرن السابع الميلادي فشجع ذلك الإمبراطورية الفارسية في الشرق على الهجوم على ممالكها و احتلال الشام ومصر..
و دخل الفرس الإسكندرية و نهبوا المدينة و قتلوا الكثير من أهلها و فى أماكن أخرى من مصر أحدث الفرس مذابح مشابهة..و كان الإسلام في الجزيرة العربية ما يزال وليداً عندما وقعت تلك الأحداث التي ذكرت في القرآن في أول سورة الروم حيث حزن المسلمون بهزيمة الروم لأنهم أهل كتاب مثل المسلمين في حين أن الفرس يدينون بالمجوسية ولكن الله بشرهم أن النصر سيحالف الروم من جديد في بضع سنين وعندها سيفرح المؤمنون و صدق الله وعده فلم يدم الحكم الفارسي إلا بضع سنين حيث استطاع الإمبراطور هرقل استرداد ممالكه و رجعت الإسكندرية من جديد تابعة للإمبراطورية البيزنطية الرومانية..
و قد أراد هرقل تعيين بطريرك قوى في الإسكندرية يسند له الرئاسة السياسية بجانب سلطته الدينية ليكون قادر على قهر الأقباط فعين بطريرك رومانيا يدعى "قيرس" والمعروف عند مؤرخي العرب باسم "المقوقس"..
قيرس أو المقوقس
كان النزاع المذهبي على ما يعرف بالمونوثيليتية ما يزال على أشده في مصر وخاصة في الإسكندرية-عاصمة مصر في ذلك الوقت.. و قد أراد الإمبراطور هرقل تعيين بطريرك قوى يسند له الرئاسة السياسية بجانب سلطته الدينية ليكون قادر على قهر الأقباط وإرغامهم على اتباع المذهب المونوثيليتية فعين قيرس - وكان رومانياً- لهذا المنصب..
و لم يكد هرقل يصل إلى الإسكندرية فى خريف سنة 631 م حتى هرب البطريرك بنيامين و لكن قبل رحيله عقد مجمعاً بالإسكندرية شهده القسس و الرعية و ألقى فيه خطاباً يحضهم فيه "على أن يثبتوا على عقيدتهم حتى يوافيهم الموت" ثم كتب إلي أساقفته جميعاً يأمرهم بالهجرة إلى الجبال و الصحارى أنبأهم أن البلاد سيحل بها الوبال و أنهم سيلقون الظلم لعشر سنوات ثم يرفع عنهم بعد ذلك ثم تسلل بنيامين في كنف الليل إلي صعيد مصر على جانب الصحراء(عند مدينة قوص) حيث مكث بدير صغير هناك..
و بعد أن فشل قيرس (المعروف عند مؤرخي العرب بالمقوقس) في تغيير مذهب المصريين ، أخذ في اضطهادهم إلا أن كل ذلك لم ينل من إيمانهم.. حتى أن شقيق البطريرك السابق بنيامين تعرض لتعذيب بشع حيث سلطت النار على جسمه فأخذ يحترق و سال الدهن من جسمه ثم رموا به في البحر غير أنه مات و لم يتزعزع إيمانه!
و يقول المؤرخ ميخائيل السربانى: "لم يصغ الإمبراطور إلى شكاوى الأساقفة فيما يتعلق بالكنائس التي نهبت ولهذا فقد انتقم الرب منه.. لقد نهب الرومان الأشرار كنائسنا و أديرتنا بقسوة بالغة واتهمونا دون شفقة ولهذا جاء إلينا من الجنوب أبناء إسماعيل0 لينقذونا من أيدي الرومان وتركنا العرب نمارس عقيدتنا بحرية وعشنا فى سلام"
الإسكندرية بعد ظهور الإسلام
بعد وفاة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم خرج العرب المسلمون من شبه الجزيرة العربية لنشر الإسلام في أنحاء العالم المعروف، وضربوا أروع الأمثلة في الفضائل و القدوة الحسنة.. و قد رحب المصريون بالمسلمين الذين خلصوهم من ظلم الرومان طيلة عقود طويلة من القهر و الظلم ..
وبعد أن عجز البيزنطيون عن مقاومة الجيش الإسلامي تم عقد معاهدة في 641 م اشتهرت بـ"صلح الإسكندرية" تنتهي بعد حوالي سنة يتم خلالها جلاء الحامية البيزنطية عن الإسكندرية و ألا يعود البيزنطيون للإسكندرية.. و دخل القائد عمرو بن العاص الإسكندرية في 642 و كتب إلى الخليفة عمر بن الخطاب يصف له المدينة التي كان بها وقت دخوله إليها " 4000 قصر و4000 حمام عام و 12000 مزارع و 40000 يهودي و400 مسرح" و لكن بعد مدة قصيرة من السيطرة على المدينة قام البيزنطيين بهجوم مضاد ليستعيدوا المدينة من جديد إلا أن عمرو بن العاص استطاع هزيمتهم و دخل الإسكندرية مرة أخرى في صيف سنة 646 و رحب الأقباط في الإسكندرية بقيادة البطريرك بنيامين بالمسلمين ترحيباً بالغاً و بذلك فقدت الدولة البيزنطية أغنى ولاياتها إلى الأبد.
و قد تم تحويل العاصمة من الإسكندرية إلى الفسطاط حيث لم يرد الخليفة عمر بن الخطاب أن يفصله عن والى مصر بحر..هذا مما أفقد الإسكندرية الكثير من أهميتها و رغم أن ذلك لم يفقد العرب افتتانهم بالمدينة و ذلك يتضح من خلال كتاباتهم العديدة عن وصف الإسكندرية و منارتها و آثارها القديمة..
و بالطبع فقد استمرت حركة التجارة التى كانت الإسكندرية تلعب فيها دورا مهما و كذلك تم بناء سور جديد للمدينة..و قد وفد على الإسكندرية الكثير من العلماء من أمثال الإمام الشاطبى و الحافظ السِّلَفي و ابن خلدون وغيرهم الذين أثروا الحركة العلمية للمدينة.. و من المعالم التي تركتها المرحلة الأولى للفتح ضريح و جامع أبى الدرداء-ذلك الصحابي الجليل- في منطقة العطارين والذي شارك فى فتح مصر..
و قد تعرضت المدينة لعدة زلازل قوية (عام 956 ثم 1303 ثم 1323) أدت إلى تحطم منارتها الشهيرة (إحدى عجائب الدنيا السبع) حتى أن ابن بطوطة – الرحالة المعروف- عندما زار الإسكندرية فى عام 1349 لم يستطع السير عند موقع المنارة من كثرة الحطام!
كما تعرضت الإسكندرية لهجمات صليبية كان أخرها فى أكتوبر [[1365]] م عانت فيها من أعمال قتل دون تمييز بين مسلم ومسيحي ونهب وضربت المساجد.. إلا أنه و فى عام 1480 قام السلطان المملوكي قايتباي ببناء حصن للمدينة لحمايتها في نفس موقع المنارة و المعروفة الآن بـ"قلعة قايتباي"حيث حظيت الإسكندرية فى عهده بعناية كبيرة..و قد هيأت دولة المماليك وسائل الراحة لإقامة التجار الأوروبيين فى مينائي الإسكندرية و دمياط فبنيت الفنادق و وضعتها تحت تصرف التجار،
حتى يعيش التجار الأوروبيين وفق النمط الذى اعتادوه فى بلادهم و كانت الفنادق مبان كبيرة مكونة من عدة طوابق وبها فناء داخلي يجرى به عمليات فك البضائع وربطها .. و بعد بناء القاهرة في سنة 969 م ثم اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح في عام 1498 م و كذلك بعد جفاف فرع النيل و القناة التي كانت تمد الإسكندرية بالمياه العذبة، فقدت الإسكندرية الكثير من أهميتها..
إلا أنها كانت ما تزال الميناء الرسمي المصري و التي كان يرسو عندها أغلب الزائرين الأوروبيين فى العصر المملوكي و العثماني..و فى نهاية القرن الثامن عشر الميلادي حينما سيطر المماليك على مصر في ظل الحكم العثماني، ظهر الفساد و زادت الضرائب على المصريين و كانت أوروبا قد بدأت تشهد تغيرات سياسية هامة بعد قيام الثورة الفرنسية و صعود نابليون بونابرت كزعيم سياسي..
و جاءت الحملة الفرنسية على مصر و دخل جنود الحملة الفرنسية الإسكندرية فى الأول من يوليو عام1798 بدون مقاومة تذكر..و رغم أن أفراد الحملة لم يكن لديهم لا الوقت و لا الرغبة فى إعادة الحياة إلى الإسكندرية إلا أن تلك الحملة كانت بمثابة إنذار بـ"اليقظة" إلى كل المصريين! و سرعان ما التحمت القوات البريطانية مع الفرنسية في الإسكندرية فى عام 1801 م فى معركة أدت لخروج القوات الفرنسية من مصر..لتدخل الإسكندرية ومصر بصفة عامة مرحلة جديدة مليئة بالنهضة فى جميع المجالات..
__________________
[center]نهضة جديدة للمدينة
تدين الإسكندرية لمحمد على باشا بالنهضة حيث أنه -وبحق -قد أعاد للمدينة الحياة شئنا أم أبينا..ففي عام 1820 م تم الانتهاء من حفر قناة المحمودية لربط الإسكندرية بنهر النيل مما كان له الفضل في إنعاش اقتصاد الإسكندرية..
وقد صمم الميناء الغربي لأن يكون هو الميناء الرسمي لمصر و تم بناء منارة حديثة عند مدخله..كذلك فإن منطقة المنشية هي بالأساس من تصميم مهندسيه..كما شيد محمد على عند رأس التين مقره المفضل و أصبحت الإسكندرية هي مقر قناصل الدول الغربية مما جعل لها شخصية أوروبية حيث جذبت العديد من الفرنسيين واليونان واليهود والسوريين ، بسبب الانتعاشة التي منيت بها المدينة..
كذلك –و بعد بناء أسطول مصري قوى- فقد خرجت عدة حملات بحرية مصرية من الإسكندرية إلى جزيرة كريت و مورة و سوريا..كما كانت المدينة مهددة مرتين: مرة بالأسطول اليوناني في عام 1827 م و مرة بالأساطيل البريطانية والفرنسية والروسية في عام 1828 م.. و على كل حال فقد أصبحت الإسكندرية منذ تولى محمد على الحكم وخلال الـ150 سنة التالية أهم ميناء في البحر المتوسط و مركزا مهما للتجارة الخارجية و مقرا لسكان متعددي الأعراق و اللغات و الثقافات..
و زاد عدد سكانها من 8000 نسمة
(مباشرة عند تولي محمد على الحكم)
إلى 60000 نسمة.
و تحت حكم خلفاء محمد على استمرت الإسكندرية في النمو الاقتصادي و خاصة بعد افتتاح قناة السويس في عام 1867 م..كما زاد النمو السكاني نحو شرق المدينة عند منطقة الرمل (نيكوبوليس في العهد الروماني) و التي كانت قد تحولت إلى مجرد خراب، و ذلك لمواكبة الزيادة في عدد السكان .. كذلك تم ربط الإسكندرية بالقاهرة بخط سكة حديد في عام 1856 م .. و فى عام 1882 م قام الزعيم الوطني (وزير الحرب وقتها) أحمد عرابي بثورة ضد الخديوي توفيق للاحتجاج على التدخل البريطاني في شئون مصر..و قد تأزم الموقف عندما وصل الأسطول البريطاني إلى الإسكندرية ليقذف المدينة بالقنابل لمدة يومين حتى استسلمت المدينة معلنة بداية الاحتلال البريطاني لمصر والذي دام لسبعين عاماً..
وتحت الاحتلال البريطاني زاد عدد الأجانب و خاصة اليونان و الذين أصبحوا يمثلون مركزا ثقافيا و ماليا مهم في المدينة..و تحولت الإسكندرية و قناة السويس إلى مواقع استراتيجية مهمة للقوات البريطانية.. و فى تقرير للقنصل البريطاني عن الإسكندرية عام 1904 قال: "زاد حجم الإنشاءات و المباني و زادت أسعار الأراضي بصورة هائلة..كما تضاعفت تكلفة المعيشة في المدينة.." و خلال الحرب العالمية الثانية، كانت الإسكندرية مهددة عندما وقعت معركة العالمين على ساحل البحر المتوسط غرب المدينة
إلا انه و بحلول عام 1952 م، قام بعض من ضباط الجيش المصري بانقلاب عسكري تم تعريفه فيما بعد بـ"ثورة 52" أدى إلى خروج الجيش البريطاني نهائياً في 1954م. و من الإسكندرية خرج الملك فاروق بعد أن تنازل عن العرش و رحل إلى منفاه في إيطاليا..
و من الإسكندرية و بالتحديد في ميدان المنشية، أعلن الرئيس جمال عبد الناصر (وهو بالمناسبة من مواليد الإسكندرية) تأميم قناة السويس.. و قد قلت أعداد الجاليات الأجنبية في الإسكندرية بعد سياسة التأميم التي اتبعها الرئيس عبد الناصر و كذلك بسبب الحروب التي خاضتها مصر(1956-1967-1973) إلا أنه ما يزال هناك جالية يونانية بسيطة في المدينة..
و يبدو تاريخ الإسكندرية العريق الثرى بثقافاته المتعددة حاضرا في كل ركن من أركان المدينة الجميلة..من خلال رائحة المدينة..من خلال أسماء الكثير من الأحياء و الشوارع مثل كامب شيزار (أي معسكر قيصر) و سانت كاترين وسان ستيفانو ومحرم بك وسابا باشا والشاطبي (نسبة للإمام الشاطبى التى عاش بها) وسموحة (اسم يهودى) وسيدى جابر وسيدى بشر.